دراسات إسلامية

دور القيم والأخلاق في تحقيق أمن الأموال




دور القيم والأخلاق في تحقيق أمن الأموال

مما لا شك فيه أن رسالة الإسلام هي رسالة قيم وأخلاق في المقام الأول حتى أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

فخصص رسالته وجعلها في تصحيح الجوانب الخلقية في المجتمع فنجد أن الإسلام ربط الأخلاق بجميع مناحي الحياة، حيث ربطها بالجانب العقدي في حياة المسلم فحيث وجد الإيمان لا بد للخلق أن يكون متمماً له وإلا كان الإيمان ناقصاً بدون خلق وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا إيمان لمن لا أمانة له).

كما ربط الأخلاق بالعبادات وجعل الخلق ثمرة من ثمرات العبادة فحيث وجدت العبادة ولم تثمر خلقاً كانت العبادة غير مكتملة فقال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت: 45)، وقال صلى الله عليه وسلم (من حج لله فلم يفسق ولم يرفث عاد كيوم ولدته أمه).

كما ربط كذلك بين الأخلاق والمعاملات المالية بحيث لا يكون الوصول للمال هو الهدف والغاية الوحيدة دون النظر إلى الوسيلة، فإذا لم يفعل الجانب الأخلاقي ولم تطبق قواعده أثناء تحصيل الأموال وكسبها كانت أموال الناس في خطر عظيم ونتج عن ذلك مشاكل اقتصادية عدة تنعكس آثارها السلبية ومخاطرها على الأفراد عموماً بالإضافة إلى فقد المكلف حينها أهلية استخلافه من قبل الله تعالى على أموال الأرض وما فيها من ثروات ومعايش للناس ولذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لها في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما).

ومما لا شك فيه أن التاجر حين يكون صدوقاً ومبيناً لم خفي في البيع ينعكس ذلك استقراراً وأماناً على عقود وأموال المكلفين.

هذا وأسوق هنا بعضاً من الضوابط الخلقية التي تورث استقراراً وأمناً في العقود والأموال وتنفي الخطر والخوف عنها.

أولاً: الصدق وعدم الكذب

والصدق مطابقة الحكم للواقع ولا يشترط في الاعتقاد وقيل يشترط، والصدق والكذب أصلهما في القول ماضياً كان أو مستقبلاً، وعداً كان أو غيره، والصدق مطابقة القول المضمر والمخبر عنه معاً، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقاً بل إما أن لا يوصف بالصدق، أو بالصدق تارة وبالكذب تارة على نظيرين مختلفين.

فقول النبي صلى الله عليه وسلم (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا…..) الصدق من البائع والمشتري على حد سواء في تعاملاتهم المالية في الإخبار عن كل ما خفي والتبس في بيوعهم وكان يوصل للنزاع والشقاق، لأن الصدق يورث استقراراً في تعاملات الناس وأمناً في أموالهم، فهو وقاية للمال وحفظ من الضياع، والكذب يورث زعزعة وخوفاً وريبة ومحقاً للمال ولمن يتعامل به.

يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه فيما يرويه عنه الحسن قال (أن أبو بكر خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن أكيس الكيس التقوى وأحمق الحمق الفجور ألا وإن الصدق عندي الأمانة والكذب عندي الخيانة…..).

ثانياً: الأمانة وعدم الخيانة.

الأمانة ضد الخيانة وهي واقعة على الطاعة والعبادة والوديعة، بمعنى أنها تشمل كل ما يعهد به للإنسان من التكاليف، أما الخيانة فهي مخالفة الحق بنقض العهد في السر والأظهر أنها شاملة لجميع التكاليف الشرعية، كما يدل عليه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال: 27)، وللأمانة استعمالات عدة:

  • فهي تارة تستعمل بمعنى الشيء الذي يوضع عند الأمين ليحفظه كالوديعة.
  • وتارة بمعنى الصفة وذلك فيما يسمى ببيوع الأمانة (وقد سبق الكلام عن بيوع الأمانة)

وصلة الوصل بين الأمانة وعدم الخيانة من جهة وأمن الأموال من جهة ثانية، واضحة جلية في أن الأمانة تورث الأمن في العقود والتعاملات والأموال، والخيانة تورث الخوف والاضطراب والنزاع فيها، فمتى كان البائع أميناً في الإخبار عن سعر الشراء في بيع المرابحة مثلاً أو التولية أو الوضيعة استقرت تعاملات الناس وانعكست أمناً على أموالهم، ومتى خان وقع النزاع واضطربت تعاملاتهم وانعكست خطراً على أموالهم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58)، يقول الجصاص في الآية (وقال ابن عباس وأبي بن كعب والحسن وقتادة هي في كل مؤتمن على شيء)، ومما لا شك فيه أن الله تعالى لا يأمر إلا بما يحقق الأمن والاستقرار ولا ينهى إلا عما يوقع العداوة والنزاع.

ثالثاً: العدل وعدم الظلم

العدل: هو مساواة بين الناس أو بين أفراد الأمة في تعيين الأشياء لمستحقيها وفي تمكين كل ذي حق من حقه بدون تأخير، أما الظلم فهو التصرف في ملك الغير ومجاوزة الحد، وقيل وضع الشيء بغير محله بنقص أو زيادة أو عدول عن زمنه، ويقال فيما يقل ويكثر من التجاوز، ولذلك يستعمل في الذنب الصغير والكبير.

يقول عليه الصلاة والسلام وقد ساوى بين الظلم والظلمة (اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة).

وما ذلك إلا لأن الظلم يدمر الأخوة والتضامن وينعكس خطراً وخوفاً على البلاد والعباد ويزيد في حدة النزاع والتوتر والجريمة ويفاقم المشكلات ولا يؤدي في نهاية المطاف إلا إلى الكآبة والغضب في الدنيا والشقاء والعذاب في الآخرة.

يقول أبو يوسف في كتابه الخراج (إن العدل وإنصاف المظلوم وتجنب الظلم مع ما في ذلك من الأجر يزيد به الخراج وتكثر به عمارة البلاد والبركة مع العدل تكون) ويمكن القول أن زيادة الخراج وكثرة العمارة إنما هي نتيجة نمو وحركة وتقليب الأموال ولا يتحصل ذلك إلا مع أمن الأموال.

ويقول الماوردي (العدل الشامل يدعو إلى الألفة ويبعث على الطاعة وتتعمر به البلاد وتنمو به الأموال ويكثر معه النسل ويأمن به السلطان فقد قال المرزبان لعمر حين رآه وقد نام متبذلاً عدلت فأمنت فنمت وليس شيئاً أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور لأنه ليس يقف على حد ولا ينتهي إلى غاية).

هذا وصلة الوصل بين العدل ومنع الظلم وبين أمن الأموال هي أن أمن الأموال لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إقامة العدل ومنع الظلم فهي علاقة سببية، يقول ابن خلدون (الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال ولا سبيل للمال إلا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل والعدل المنصوب بين الخليقة نصبه الرب وجعل له قيماً وهو الملك).

رابعاً: الوفاء بالحقوق وعدم أكل أموال الناس بالباطل.

والوفاء هو ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء، أما الباطل فهو الذي لا يكون صحيحاً بأصله ولا يعتد به ولا يفيد شيئاً وما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة إما لانعدام الأهلية أو المحلية كبيع الحر وبيع الصبي، والباطل ما كان في مقابلة الحق.

يقول عليه الصلاة والسلام (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره).

يقول الصنعاني (فيه – أي الحديث – دلالة على شدة جرم من ذكر وأنه تعالى يخصمهم يوم القيامة نيابة عمن ظلموهم………….. وقوله استوفى منه أي استكمل منه العمل ولم يعطه أجره فهو أكل لماله بالباطل مع تعبه وكده).

هذا وصلة الوصل بين الوفاء بالحقوق وعدم أكل أموال الناس بالباطل وبين أمن الأموال هي أن الوفاء بالحقوق سبيل إلى استقرار تعاملات الناس وبالتالي أمن أموالهم، وإلا إذا لم توفى الحقوق فهذا مدعاة لاستباحة الأفراد أموال بعضهم البعض تحت دعوى استيفاء الحقوق بشتى أنواع العقود والتعاملات المحرمة وبالتالي انعدام أمن الأموال.

خامساً: حسن القضاء والاقتضاء

استقضيت الغريم طلبت منه أن يقضي، والاقتضاء المطالبة بقضاء الدين، وحسن القضاء ترك الندم والمن في المجازاة.

وعن حذيفة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (ثم مات رجل فقيل له، قال كنت أبايع الناس فأتجوز عن الموسر وأخفف عن المعسر فغفر له)، وفي رواية مسلم عن أبي رافع قال (ثم استلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره فقلت لم أجد في الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء).

هذا وواضح أثر حسن القضاء والاقتضاء في أمن الأموال فالذي يبادر ليفي الآخرين حقوقهم بل ويزيدهم على ما استدان منهم إنما يأمن مكر الآخرين به وبأمواله كما يأمن أن تمتد يد إلى ماله تحت دعوى أن لها في ماله حق ودين، ومن يمتنع عن الوفاء بحقوق الآخرين إنما يأكل أموالهم بالباطل ويعطي المبرر للغير في تهديد سلامة وأمن أمواله، ولذلك جاء تحذير النبي صلى الله عليه وسلم للغني من المطل فروي عنه صلى الله عليه وسلم (مطل الغني ظلم)، وما ذاك إلا لأن امتناع الغني عن الإيفاء بحقوق الآخرين تهديد مباشر لأمن أموالهم ومقدمة لأكل أموال الناس بالباطل.

سادساً: الإتقان وعدم التفريط

أتقن الشيء أحكمه، وإتقانه إحكامه، والإتقان الإحكام للأشياء، ورجل تقن وتقن متقن للأشياء حاذق، ومنه يقال أتقن فلان عمله إذا أحكمه، وفرط في الأمر يفرط فرطاً أي قصر فيه وضيعه حتى فات، وكذلك التفريط.

فالمطلوب من المكلف إحسان العمل وتأديته بإحكام وإتقان وليس هذا من باب التنفل أو التفضل بل فرض ملزم به المكلف ففي الحديث (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، وقال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الأنعام: 152)، فقد نهى القرآن عن الاقتراب من أموال اليتامى إلا بالتي هي أحسن أي بأحسن وأتقن الطرق والأساليب وما ذاك إلا تحقيق أمن أموالهم لما يغلب على اليتامى من الضعف.

فالإتقان سبيل لتحقيق أمن الأموال، والتفريط والتهاون سبب مباشر لتعويض الأموال للخطر وهتك أمنها، لذلك كان التفريط والتقصير والتهاون في حفظ مال المضاربة من المضارب يوجب الضمان عليه، فقد اتفق الفقهاء على أن يد الشريك المضارب يد أمانة فلا يضمن إلا بالتفريط والمال عنده يكون بمنزلة الوديعة، وإذا خالف المضارب شرط رب المال كأن يفعل ما ليس له فعله صار بمنزلة الغاصب ويصير المال مضموناً عليه للتعدي.

سابعاً: الاعتدال وعدم الإسراف

الاعتدال توسط بين حالين في كم أو كيف وكل ما تناسب فقد اعتدل، والإسراف يقابل التقتير وهما مذمومان، والإسراف تجاوز في الكمية فهو جهل بمقادير الحقوق وصرف للشيء فيما ينبغي زائداً على ما ينبغي، بخلاف التبذير الذي هو صرف للشيء فيما لا ينبغي.

يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين مر بسعد وهو يتوضأ فقال (ما هذا السرف، فقال أفي الوضوء إسراف، قال نعم وإن كنت على نهر جارٍ)، فالنبي يوضح أن صفة الإسراف صفة ذميمة غير مرغوبة مهما كانت درجة وفرة الموارد، لأن الإسراف يهدد أمن الموارد أياً كانت وكذلك أمن الأموال، أما سلوك الاعتدال فيؤدي إلى الاستقرار والطمأنينة والتوازن الاقتصادي ويثمر أمناً خاصة عندما يتصف المجتمع كله بهذا السلوك بينما يؤدي الإسراف إلى حدوث الأزمات وتفاقمها خاصة عندما يكون هذا السلوك هو السائد بين أفراد المجتمع، فوجود المسرفين والمبذرين والمترفين في أمة من الأمم من مؤشرات وجود خلل والسير في طريق الانحلال والنتيجة الحتمية لذلك ظهور المشاكل التي تهدد الأمن المالي وغيره من الموارد، وبالتالي تؤدي إلى الهلاك، لذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع من شأن الاقتصاد والاعتدال فجعله خصلة من خصال النبوة فقال (السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربع وعشرين جزء من النبوة).

ثامناً: من أخلاق السوق التي لها أثر في تأمين الأموال في المعاوضات المالية.

  1. تطبيق الإفصاح والبيان في البيع لقوله صلى الله عليه وسلم (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما)، فالبيان أمن واستقرار لعقود وأموال البائع والمشتري والكتمان خطر على أموالهم وعقودهم.
  2. عدم الترويج بالدعاية الكاذبة أي بصفات ليست موجودة أصلاُ في السلعة لإنفاقها والكسب منها، والنبي نهى عن ذلك بقوله (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم، قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال أبو ذر خابوا وخسروا من هم يا رسول الله، قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)، وهذا النوع من الترويج الكاذب يهدد أمن الأموال لما فيه من خداع وكذب وأكل للأموال بالباطل.
  3. مراقبة الموازين والمكاييل من التلاعب بها لما في ذلك من انتهاك صارخ لأمن أموال الآخرين، قال تعالى: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (الرحمن: 8و 9).
  4. تنظيم أعمال الوساطة والسمسرة وذلك بمنع تلقي الركبان والنهي عن بيع الحاضر للباد وحتى تتبين جميع الظروف المحيطة والمتحكمة بقوى العرض والطلب لما للتلاعب بهذه القوى من مخاطر عظيمة على أمن الأموال.

 

noga_moga

انا كاتبة مقالات سابقة في مجالات عديدة وقد وجدت موقع جامعة المنح الالكتروني وقد اعجبتني فكرته في لم شمل العديد من الاقسام في مكان واحد من اجل تقديم خدمات تعليميه هادفه متميزة لذلك قمت بالمشاركة لتقديم ما استطيع من خدمات تفيد الجميع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى