الإعداد وتصنيف النص السينمائي

الإعداد وتصنيف النص السينمائي

إن رؤية الإعداد السينمائي تنبجس مع الخطوة الأولى في اختيار النص (أي أن لحظة اختيار النص هي إقرار فعلي بمضمون العلم الأدبي وامتيازه له من باقي الإنجازات الأدبية من جنسه، لا نقصد بهذا الإقرار دوافع الإعجاب بالأدب فحسب وإنما إمكانية نقل العمل الأدبي إلى ميدان إبداعي جديد هو الفيلم واعتماد ذلك النص مادة خام للإنجاز الفيلمي)، وإذن فالاختيار هو تأسي لرؤية الإعداد من حيث مفهوم القراءة، فالمعد قاريء للنص الأصلي ومن حيث مفهوم العلاقة فالنص يحمل في ذاته إمكانية تسوغ إعداده وتحويله إلى وسط فني آخر. ومن اليسير أن نلاحظ أن أنواع الإعداد التي عرضها دي جانيتي التي سجلنا تحفظنا عليها ليست كافية في تحليل رؤية المعد السينمائي، فضلاً عن أسباب اختياره للنص المراد إعداده فالنص يظل متحكماً في الإعداد حتى في أكثر صور الإعداد ابتعاداً عنه وتجرداً منه، وهذا الأمر يقيد حرية المعد كما أنه يضع العلاقة بين الأصل والإعداد في ذهن المتلقي في وضع خطر يميل ضرورة إلى أحد الطرفين، أن الدارسين يرون (أن السينما تستطيع معالجة الأنواع الثلاثة الكبيرة من الرواية وهي تصوير مرحلة زمنية ما، وتطور حياة ما، أو سرد أزمة ما، ولكن السينما لا تستطيع أن تعالج هذه الأنواع الثلاثة في الرواية بالدرجة نفسها من السهولة والكمال فهي محكومة في النوعين الأوليين، القيام باختيار وبإضاءة لحظات معبرة أو لوحات أساسية وكذلك فإنها تبدو دائماً وكأنها تختصر أو تقدم أجزاءً منتقاة من أثر أدبي أكثر اتساعاً، وفي النهاية فإنني  أعتقد أن هذين النموذجين من الرواية لا يمكنهما مطلقاً أن يقدما للسينما مثلاً جيداً تماماً على العكس من ذلك فإن الرواية – الأزمة تقترب من التركيز الضروري للسرد السينمائي) … إن الرؤية التي يعرضها فيزيلية في ما اقتبسناه منه آنفاً ليست جديدة وهي نفسها ما عرضه دي جانيتي من حديثه حول الإعداد غير أن الجديد فيها هو تعيين نوع الرواية الصالحة للإعداد السينمائي، فهو يرى أن النوع الوحيد هو رواية الأزمة أي الرواية التي يكون فيها الحدث الدرامي ذا اتجاه تصاعدي واضح وغير متشعب وليست فيه تفصيلات تحليلية أو تأملات، أنه النوع (الأكثر اختصاراً في الوقت الذي يتم التعبير فيها قبل كل شيء عن طريق السلوك الخارجي لشخصياتها) …وعلى الرغم من أن رواية الأزمة لا تخلو من معوقات ومصاعب العلاقة بين الأدب والفيلم فإنه بقربها من أطر المسرحية تبدو أكثر اقتراباً من السرد السينمائي المعتمد على التكثيف والبناء الصوري، فضلاً عن مساحة الأمانة في النقل التي تبقى العلاقة بين النصين ملحوظة وقائمة دون أن تلغي حرية المعد في عمله النهائي.

إن رواية فاولز التي أعدها سينمائياً كاتب مسرحي من طراز (هارولد بنتر) وأخرجها منظر سينمائي كبير من طراز (كارل رايز) تنتمي ظاهراً إلى الصنف الأول (تصوير مرحلة زمنية ما) ولكنها في الحقيقة تدغم الأنواع الثلاثة في قالب واحد، فهي رواية (تطور حياة ما) من خلال استعراضها لوعي وحياة وحرية (سارة وودراف) وهي أيضاً (رواية أزمة ما) من خلال تقصيها للأزمة الأخلاقية والقيمية لبطلها (شارلز سيمشون) فهي أذن رواية ثلاثية الصنف أن صح التعبير وإن كان الاتجاه الأول أوضح على سطحها ومسارها السردي العام، فإنما نحن ضحية خدعة مقصودة وإيهام متعمد اراده فاولز من خلال انتقاءه لهذا العصر مدعماً (واقعيته المفترضة) بقوائم إحصائية ومقتطفات تاريخية ومقارنات وإحالات وشروح، الرواية في النهاية لعبة بديعة ولكنها مراوغة وعصية على التصنيف وهذا ما يجعلها صعبة في حال التفكير بإعدادها… فأي أنواع الأعداد يصلح لها؟؟ وهي متماسكة ومقصودة في كل حركة وسكنة وكل ما فيها إنما هو أساسي في خدمة حركتها السردية وفعلها الروائي حتى ما يبدو لأول وهلة ضرباً من الهذر الزائد والاستطراد غير الضروري، إنه روح العصر وروح الشخصيات وروح الزمن الغائم المختفي في مراوغات واضحة ولكنها غير مألوفة ولابد لها أن تكتب بهذا الشكل وهذه ليست محنة في وعي الروائي ولكنها محنة معضلة في وعي المعد السينمائي، فكيف يعالج هارولد بنتر هذه المحنة؟

لقد راوغنا هارولد بنتر أيضاً فقد أهمل الإغراء المتمثل في الصورة التاريخية للرواية، وكان ممكن أن يكون منها فيلماً رائعاً يكتفي بمتابعة اتجاه السرد الروائي وحبكة فاولز، مهملاً التمويهات الحداثوية والإشارات البريختية غير المرغوب فيها، ولكن بنتر اختار طريقة أكثر وفاءاً لأصله المسرحي إنها طريقة (براندللو) التي وظفها في عمله المسرحي الشهير (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) وهو – أي بنتر – يخالف الأنواع الثلاثة المألوفة من الإعداد ليلتزم نوعاً شاملاً هو إعداد القراءة أي أن المعد بوصفه قارئاً ومتلقياً واعياً سوف ينتج النص المقروء مضيفاً عليه معنى آخر ويستطيع القارئ – المعد هنا أن يوظف أنواع الإعداد كلها في خدمة رؤيته المبدعة والحرة للنص المقروء، فقد التقط هارولد بنتر قيمته الإعداد غير المشدود عندما ركز على اتجاه (شارلز/ سارا) مهملاً إلى حد بعيد كل الاتجاهات الأخرى (شارلز/ عمه) – (ماري/ سام) – (فارلي/ بولينتي) – (ماري/ سيدتها) وغيرها من عناصر التكوين في الحبكة الأصلية للرواية، كما التقط بينتر قيمة الإعداد الأمين عندما أمسك بحرفية عالة بعناصر الروح الفيكتورية التي سربها فاولز في أثناء روايته، لقد فهم بينتر مقاصد فاولز وكان أميناً في نقلها ولو بطريقة مختلفة عما فعله فاولز، أما الاعداد الحرفي فقد حرص عليه هارولد بنتر في مواضع كثيرة من نصه السينمائي كان يقوم فيها بالنقل الحرفي المباشر لما يريده فاولز، ولا سيما مظاهر الحياة في العصر المقصود ومتعلقاتها.

وهكذا كان إعداد هارولد بنتر مشتملاً على أنواع الأعداد كلها ولكنه مختلف عنها في صورته النهائية فهو أقرب إلى الطريقة المسرحية التي ذكرناها منه إلى طبيعة الرواية، وقد تكون هذه المعالجة طريقة خاصة لتلمس روح الرواية أو لمشاركة صانعها وعدم الاستسلام لإغرائها أو لإثبات الذات ولكنها – أيا كان مغزاها – خرجت على أنواع الأعداد المألوفة وأوجدت نظاماً سردياً في الفيلم يختلف كثيراً في قواعده وأزمنته وتحولاته وعلائقه كما هو في الرواية ولكنه لا يقل عنه في الغنى والعمق… بقيت في هذا الأمر مسألتان:

المسألة الأولى: ماذا أراد المعد عندما اختار هذه الطريقة في الإعداد؟ وهل كانت إرادته متوازية ومتوافقة مع ما أراده فاولز كما سبق وأن عرضنا؟

إن الإجابة عن ذلك تبدو غير يسيرة ولكننا من خلال بعض المعالجات الفيلمية التي ابتكرها هارولد بنتر نجده يتأرجح بين السخرية من العصر الفيكتوري (كما في مشهد استخدام المنظار المقرب وهو لم يرد في الرواية أصلاً) وكما في مشهد عناق الخطيبين البارد في أول الفيلم وبين إحساسه بالتشابه بين العصرين أو بعبارة أدق لأزمنية الأزمة العاطفية (كما هو واضح في المماهاة بين ممثلي الفيلم وابطال الرواية) وفي العموم فقد التقط بنتر كثيراً من مقاصد فاولز ولكنه انحرف عنها ليقدم رؤيته هو لذلك العصر وللأزمة العاطفية ولموقفه من الفن ولأشياء أخرى عرضها في إعداده.

المسألة الثانية: كيف يمكن تصنيف فيلم امرأة الضابط الفرنسي وفقاً للمنجز السينمائي؟ فهل هو فيلم تاريخي كما هو حال الرواية المأخوذ عنها؟ أم هو فيلم تجريبي كما هو حال الرواية نفسها في بعض مواضعها؟ أم هو فيلم عصي على التصنيف؟

لقد سبق لكثير من المخرجين معالجة هذه الرواية (السينما داخل السينما) ولكنها المرة الأولى فيما أظن التي تتعرض فيها رواية تاريخية لهذه المعالجة مع الحفاظ على اتجاهين متوازيين في السرد وعدم كسر الإيهام والوقوع في لعبة التماهي إلى حد المطابقة (كما سنعرض له في مبحثنا عن المعالجة السينمائية)، أن فيلم امرأة الضابط الفرنسي يعقد أصرة أخرى مع الرواية حين يكون – كما هي الرواية – عصياً على التصنيف القاطع وعندما يكون خليطاً إبداعيا ًعالي الجودة كما هو الأصل الأدبي الذي نقل منه بين رؤيتين وموقفين من الحياة والزمن والسرد.

جميع الحقوق محفوظة لجامعة المنح للتعليم الإلكتروني

 

noga_moga

انا كاتبة مقالات سابقة في مجالات عديدة وقد وجدت موقع جامعة المنح الالكتروني وقد اعجبتني فكرته في لم شمل العديد من الاقسام في مكان واحد من اجل تقديم خدمات تعليميه هادفه متميزة لذلك قمت بالمشاركة لتقديم ما استطيع من خدمات تفيد الجميع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى